الناظر في صنيع العلماء الكبار في الفتوى يجد أن عندهم تورعاً كبيراً في إجابة السائل ؛ ويجد أنهم يبادرون بقول: (لا أدري) التي هي كما قال الشعبي: نصف العلم[1]، وسئل الإمام مالك عن مسألة، فقال: لا أدري، فقال له السائل: إنها مسألةٌ خفيفةٌ سهلةٌ، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير -وكان السائل ذا قدر- فغضب مالك، وقال: مسألة خفيفة سهلة! ليس في العلم شيءٌ خفيفٌ، أما سمعت قول الله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) [2] المزمل:5، وعلى هذا سار الإمام أحمد -رحمه الله- ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره المروذي في كتاب الورع ص102 قال: وذكر أبو عبدالله مسائل ابن المبارك، قال: كان فيها مسألة دقيقة؛ في رجل رمى طيراً، فوقع في أرض قوم، لمن الصيد؟
قال ابن المبارك: لا أدري!
قلت لأبي عبدالله: ما تقول فيها؟
قال: هذه دقيقة، ما أدري ما أقول فيها، وأبى أن يجيب.
حادي عشر: نظافته وعنايته بلباسه:
يقول عبدالملك بن عبدالحميد الميموني -وهو أحد أصحاب الإمام أحمد-: (ما أعلم أني رأيت أحدا أنظف بدناً، ولا أشد تعاهداً لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوباً بشدة بياض، من أحمد بن حنبل) [3].
وهذا الذي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمظهره من غير إسراف ولا مخيلة، وأن يتعاهد خصال الفطرة؛ فإن ذلك مما أمر به الإسلام، أما أن يرى بعض طلبة العلم متنكباً عن ذلك؛ فهذا مما لا ينبغي، وقد يعتذر بعضهم عن هذه الأمور بأنه عنها في شغل؛ فهذا لا يعفيه، فالإسلام دين الطهارة للمخبر والمظهر.
من عيون أقواله:
لهذا الإمام أقوال محكمة نفيسة منها
- قال -رحمه الله-: (لا أعنف من قال شيئا له وجه وإن خالفناه) 4
وهذه كلمة عظيمة تصلح أن تكون قاعدة في فقه الخلاف، في أنه لا ينبغي التعنيف في المسائل التي يسع فيها الاجتهاد، التي تتجاذبها الأدلة، وليس هناك نص قاطعٌ فيها ولا إجماع. أما أن تجد بعض الناس اليوم يوالي ويعادي، ويشتد ويحتد؛ لأجل مسألة تحتملها الأدلة، فهذا من ضيق العطن، وعدم التشبع بروح العلم؛ إذ الخلاف حتم واقع في كثير من مسائل الفروع.
- وقال الميموني: (قال لي أحمد: يا أبا الحسن، إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام) 5
وهذه كلمة قيمة من هذا الإمام تعطي طالب العلم درساً في ألا يتسرع في الأخذ بشيءٍ تديناً، ويكون لم يسبق بهذا الشيء، بل عليه أن يتروى ويلزم سنن الأئمة.
- وقال أحمد بن محمد بن يزيد الوراق: (سمعت أحمد بن حنبل، يقول: ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط) [6].
فهذا الإمام أحمد يحكي سرعة مرور الشباب وانقضائه، فيشبهه بالشيء كان في كمه فسقط ، مع أنه -رحمه الله- قد اغتنم أوقات شبابه، وأفناها بالخير، وهو الذي قال فيه إبراهيم الحربي: (لقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً وحراً وبرداً وليلاً ونهاراً، فما لقيته لقاة في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس)[7]، وهذا يعطي الشباب درساً بأن يغتنموا شبابهم الذي فيه قوتهم على العطاء والأخذ؛ فإنه ما يلبث الإنسان إلا ويندم على فراقه.
- وقال عثمان بن زائدة: (قلت لأحمد: العافية عشرة أجزاء؛ تسعة منها في التغافل) فقال: (العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل) -8
وهذه قاعدة حسنة من الإمام أحمد في التعامل مع الناس؛ فلن تجد زوجة، أو ولداً، أو أخاً، أو معلماً، أو صديقاً، أو نحوهم، إلا وفيه ما يصفو وما يتكدر، فلا ترج شيئاً خالصاً نفعه، فتغافل عن خطأ أمثال هؤلاء، كأنك ما سمعتَ ولا رأيت، وبذلك تعيش سالماً، والقول فيك جميل، أما إذا وقفت عند كل خطأ، وحاسبت عند كل هفوة؛ فإنك تتعب نفسك، ونفسَ من تعاشر.
- قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، أو نحو ذلك فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب[9]. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة.
وهذا من فقه الإمام أحمد الدقيق في الموازنة بين المصالح والمفاسد، وقد أوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: (قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضاً مفسدة كره لأجلها، فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور: من كتب الأسمار أو الأشعار، أو حكمة فارس والروم.
فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية، والمفاسد، بحيث تعرف ما مراتب المعروف، ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل) -10
وختاماًَ أسأل الله أن يغفر للإمام أحمد، وأن يجزيه عن الإسلام خيراً، كما أسأله أن يهب لنا العلم النافع والعمل الصالح، وألا يحرمنا فضله؛ إنه يرزق من يشاء بغير حساب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
قال ابن المبارك: لا أدري!
قلت لأبي عبدالله: ما تقول فيها؟
قال: هذه دقيقة، ما أدري ما أقول فيها، وأبى أن يجيب.
حادي عشر: نظافته وعنايته بلباسه:
يقول عبدالملك بن عبدالحميد الميموني -وهو أحد أصحاب الإمام أحمد-: (ما أعلم أني رأيت أحدا أنظف بدناً، ولا أشد تعاهداً لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوباً بشدة بياض، من أحمد بن حنبل) [3].
وهذا الذي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمظهره من غير إسراف ولا مخيلة، وأن يتعاهد خصال الفطرة؛ فإن ذلك مما أمر به الإسلام، أما أن يرى بعض طلبة العلم متنكباً عن ذلك؛ فهذا مما لا ينبغي، وقد يعتذر بعضهم عن هذه الأمور بأنه عنها في شغل؛ فهذا لا يعفيه، فالإسلام دين الطهارة للمخبر والمظهر.
من عيون أقواله:
لهذا الإمام أقوال محكمة نفيسة منها
- قال -رحمه الله-: (لا أعنف من قال شيئا له وجه وإن خالفناه) 4
وهذه كلمة عظيمة تصلح أن تكون قاعدة في فقه الخلاف، في أنه لا ينبغي التعنيف في المسائل التي يسع فيها الاجتهاد، التي تتجاذبها الأدلة، وليس هناك نص قاطعٌ فيها ولا إجماع. أما أن تجد بعض الناس اليوم يوالي ويعادي، ويشتد ويحتد؛ لأجل مسألة تحتملها الأدلة، فهذا من ضيق العطن، وعدم التشبع بروح العلم؛ إذ الخلاف حتم واقع في كثير من مسائل الفروع.
- وقال الميموني: (قال لي أحمد: يا أبا الحسن، إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام) 5
وهذه كلمة قيمة من هذا الإمام تعطي طالب العلم درساً في ألا يتسرع في الأخذ بشيءٍ تديناً، ويكون لم يسبق بهذا الشيء، بل عليه أن يتروى ويلزم سنن الأئمة.
- وقال أحمد بن محمد بن يزيد الوراق: (سمعت أحمد بن حنبل، يقول: ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط) [6].
فهذا الإمام أحمد يحكي سرعة مرور الشباب وانقضائه، فيشبهه بالشيء كان في كمه فسقط ، مع أنه -رحمه الله- قد اغتنم أوقات شبابه، وأفناها بالخير، وهو الذي قال فيه إبراهيم الحربي: (لقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً وحراً وبرداً وليلاً ونهاراً، فما لقيته لقاة في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس)[7]، وهذا يعطي الشباب درساً بأن يغتنموا شبابهم الذي فيه قوتهم على العطاء والأخذ؛ فإنه ما يلبث الإنسان إلا ويندم على فراقه.
- وقال عثمان بن زائدة: (قلت لأحمد: العافية عشرة أجزاء؛ تسعة منها في التغافل) فقال: (العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل) -8
وهذه قاعدة حسنة من الإمام أحمد في التعامل مع الناس؛ فلن تجد زوجة، أو ولداً، أو أخاً، أو معلماً، أو صديقاً، أو نحوهم، إلا وفيه ما يصفو وما يتكدر، فلا ترج شيئاً خالصاً نفعه، فتغافل عن خطأ أمثال هؤلاء، كأنك ما سمعتَ ولا رأيت، وبذلك تعيش سالماً، والقول فيك جميل، أما إذا وقفت عند كل خطأ، وحاسبت عند كل هفوة؛ فإنك تتعب نفسك، ونفسَ من تعاشر.
- قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، أو نحو ذلك فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب[9]. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة.
وهذا من فقه الإمام أحمد الدقيق في الموازنة بين المصالح والمفاسد، وقد أوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: (قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضاً مفسدة كره لأجلها، فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور: من كتب الأسمار أو الأشعار، أو حكمة فارس والروم.
فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية، والمفاسد، بحيث تعرف ما مراتب المعروف، ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل) -10
وختاماًَ أسأل الله أن يغفر للإمام أحمد، وأن يجزيه عن الإسلام خيراً، كما أسأله أن يهب لنا العلم النافع والعمل الصالح، وألا يحرمنا فضله؛ إنه يرزق من يشاء بغير حساب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
No comments:
Post a Comment