ثباته على الحق ، وصبره على الأذى فيه - رحمه الله
لقد ابتلي الإمام أحمد بعدة محن، فصبر، وأشهر هذه المحن هو امتحانه بالقول بخلق القرآن، مع عدد من خلفاء بني العباس فكان مثالاً للرجل الموفق في حمل النائبات، الجلد في الاصطبار للنوازل، الثابت على الحق، لم يتزعزع عنه قِيد أنملة، قال ابن المديني: (أعز الله هذا الدين برجلين؛ ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة)1- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإمام أحمد صار مثلاً سائراً يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق، وأنه لم تكن تأخذه في الله لومة لائم؛ حتى صار اسم الإمام مقروناً باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام أحمد، هذا مذهب الإمام أحمد؛ لقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة:24 فإنه أعطى من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين، وقد تداوله ثلاثة خلفاء مسلطون من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين، والقضاة، والوزراء، والسعاة، والأمراء، والولاة، من لا يحصيهم إلا الله، فبعضهم بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل، وبغيره، وبالترغيب في الرئاسة والمال ما شاء الله، وبالضرب، وبعضهم بالتشريد والنفي، وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون، والأبرار وهو مع ذلك لم يعطهم كلمةً واحدةً مما طلبوه منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية؛ بل قد أظهر من سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وآثاره، ودفع من البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم من نظرائه، وإخوانه المتقدمين والمتأخرين؛ ولهذا قال بعض شيوخ الشام: لم يظهر أحد ما جاء به الرسول –صلى الله عليه وسلم- كما أظهره أحمد بن حنبل) -2
لقد ابتلي الإمام أحمد بعدة محن، فصبر، وأشهر هذه المحن هو امتحانه بالقول بخلق القرآن، مع عدد من خلفاء بني العباس فكان مثالاً للرجل الموفق في حمل النائبات، الجلد في الاصطبار للنوازل، الثابت على الحق، لم يتزعزع عنه قِيد أنملة، قال ابن المديني: (أعز الله هذا الدين برجلين؛ ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة)1- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإمام أحمد صار مثلاً سائراً يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق، وأنه لم تكن تأخذه في الله لومة لائم؛ حتى صار اسم الإمام مقروناً باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام أحمد، هذا مذهب الإمام أحمد؛ لقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة:24 فإنه أعطى من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين، وقد تداوله ثلاثة خلفاء مسلطون من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين، والقضاة، والوزراء، والسعاة، والأمراء، والولاة، من لا يحصيهم إلا الله، فبعضهم بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل، وبغيره، وبالترغيب في الرئاسة والمال ما شاء الله، وبالضرب، وبعضهم بالتشريد والنفي، وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون، والأبرار وهو مع ذلك لم يعطهم كلمةً واحدةً مما طلبوه منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية؛ بل قد أظهر من سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وآثاره، ودفع من البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم من نظرائه، وإخوانه المتقدمين والمتأخرين؛ ولهذا قال بعض شيوخ الشام: لم يظهر أحد ما جاء به الرسول –صلى الله عليه وسلم- كما أظهره أحمد بن حنبل) -2
. انتهى كلامه -رحمه الله- .
وملخص هذه الفتنة -3
وملخص هذه الفتنة -3
أن الناس كانوا على منهج السلف، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، حتى تولى الخليفة العباسي المأمون الخلافة سنة193هـ ، فصار من أمره ما صار من تعريب كتب اليونان، وداخله أهل الكلام، منهم: ثمامة بن الأشرس، وأحمد بن أبي دؤاد، فكان الأخير يحسن له هذه المقولة، ويدعوه إليها، حتى استجاب المأمون لها، وفي عام 212هـ فتح باب القول فيها، وإعلان المناظرة عليها، وأمر إسحاق بن إبراهيم، وهو صاحب شرطة بغداد، أن يمتحن سبعة من كبار العلماء في بغداد، فأجاب هؤلاء تقية؛ إلا أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، فأمر المأمون بإحضارهما، وكان الإمام أحمد في الطريق يسأل أن لا يرى وجه المأمون، فمات المأمون وهما في الطريق سنة218هـ، فردا إلى بغداد، ومات محمد بن نوح في الطريق، وبقي الإمام أحمد وحيداً، ثم تولى المعتصم الخلافة سنة 218هـ، وكان قد أوصاه أخوه المأمون أن يواصل أمر المحنة على القول بخلق القرآن، وبلغ البلاء أشده في عصره، فأمر بحبس الإمام أحمد وجلده، وكان يبعث له من يناظره، وهو ثابت يقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- أقول به، لم يتغير رأيه، وفي عام 220هـ أطلقه المعتصم، ورفع عته المحنة وعن غيره، فعاش بقية خلافة المعتصم طليقاً يحضر الجمعة والجماعة، ويباشر التدريس، والفتوى، والتحديث، وذلك لمدة سبع سنين حتى مات المعتصم سنة227هـ، ثم تولى بعده الواثق، وكان على دين الخليفتين قبله من القول بخلق القرآن، فامتحن الناس بذلك؛ وكتب إلى الإمام أحمد ينهاه عن مساكنته، وينهاه أن يجتمع إليه أحد، فاختفى في داره ودور أصحابه، وما زال كذلك حتى مات الواثق سنة 232هـ، ثم ولي بعده المتوكل، فرفع الله به المحنة، ونصر السنة، وفرج عن الناس.
وفي هذه المحنة عدة فوائد، منها :
1- أن العالم إذا صدق مع الله أبان له الحق، وأظهر له الحجة، ونصره ومكنه، قال أبوزرعة: (قلت لأحمد بن حنبل: كيف تخلصت من سيف المعتصم وسوط الواثق؟ فقال: لو وضع الصدق على جرح لبرأ)-4.
2- أن أقوى حجة استدل بها الإمام أحمد هي الاحتجاج بالكتاب والسنة، وبها غلب خصومه في مناظراته معهم، ففي هذا إخضاع مدرسة العقل لمدرسة النص، وأن العقل وحده لا يستقل بمعرفة الأحكام والمصالح والمفاسد.
3- عظمة هذا الإمام، فمع ما جاءه من الشدة والعذاب إلا أنه عفا عن كل من فعل به ذلك ما عدا مبتدعاً، مما يدل على أنه لم يكن ينتصر لنفسه، ولم ينتقم لها، وإنما ينتقم للدين، وقد سبق بيان شيءٍ من ذلك عند ذكر حلمه وعفوه.
4- أنه مهما كان وزن العالم وثقله عند الناس؛ فإنه يحتاج إلى من يثبته، والإمام أحمد مع وفور علمه، ورباطة جأشه، وقوة قلبه، تحكى عنه مواقف في محنته تدل على هذا، ومنها:
قال عبدالله بن أحمد: (كنت كثيراً أسمع والدي يقول: رحم الله أبا الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم. فقلت: يا أبة، من أبوالهيثم؟ قال: ما تعرفه؟ قلت: لا. قال: أبوالهيثم الحداد؛ اليوم الذي خرجت فيه للسياط، ومدت يداي للعقابين، إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي، ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا. قال: أنا أبو الهيثم العيار، اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان؛ لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين) -5.
وقال الإمام أحمد: (ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد، إن يقتلك الحق، مت شهيداً، وإن عشت، عشت حميداً، فقوى قلبي) -6.
وقال عبد الله: (جاء رجل إلى أبي فذكر أنه كان عند بشر -يعني بن الحارث-، فذكروه فأثنى عليه بشر, وقال: لا ينسى الله لأحمد صنيعه, ثبت وثبَّتنا, ولولاه لهلكنا قال عبد الله: ووجه أبي يتهلل, فقلت: يا أبت أليس تكره المدح في الوجه؟ فقال: يا بني إنما ذكرت عند رجل من عباد الله الصالحين, وما كان مني فحمد صنيعي، وقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن مرآة أخيه")-7.
5- بُعْدُ نظرالإمام أحمد، وفقهه العظيم في الموازنة بين المصالح والمفاسد، فمع هذه المقولة البدعية التي تواطأ عليها الخلفاء الثلاثة، ودعوا الناس إليها، وساموهم سوء العذاب؛ إلا أنه مع ذلك لم يكن يرى الخروج عليهم، بل كان يحذر من ذلك، ويرى السمع والطاعة لهم، وهذه حكاية تبين هذا:
يقول حنبل بن إسحاق؛ ابن عم الإمام أحمد: (لما أظهر الواثق هذه المقالة، وضرب عليها وحبس، جاء نفر إلى أبي عبدالله، من فقهاء أهل بغداد، فقالوا له: يا أبا عبدالله: إن الأمر فشا وتفاقم، وهذا الرجل يفعل ويفعل، وقد أظهر ما أظهر، ونحن نخافه على أكثر من هذا، وذكروا له أن ابن أبي دؤاد مضى على أن يأمر بالمعلمين بتعليم الصبيان في الكتاب مع القرآن: القرآن كذا وكذا. فقال لهم أبو عبدالله: وماذا تريدون؟ قالوا: أتيناك نشاورك فيما نريد. قال: فما تريدون؟ قالوا: لا نرضى بإمرته ولا بسلطانه. فناظرهم أبو عبدالله ساعة؛ حتى قال لهم: أرأيتم إن لم يتم لكم هذا الأمر، أليس قد صرتم من ذلك إلى المكروه، عليكم بالنكرة في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، ولا تعجلوا، واصبروا حتى يستريح برٌ، ويستراح من فاجر. فقال بعضهم: إنا نخاف على أولادنا، إذا ظهر هذا لم يعرفوا غيره، ويمحى الإسلام ويدرس. فقال أبو عبدالله: كلا؛ إن الله -عز وجل- ناصر دينه، وإن هذا الأمر له رب ينصره. فخرجوا من عند أبي عبدالله، ولم يجبهم إلى شيءٍ مما عزموا عليه أكثر من النهي عن ذلك، والاحتجاج عليهم بالسمع والطاعة، حتى يفرج الله عن هذه الأمة. فلم يقبلوا منه، وخرجوا من عنده، فلما خرجوا قلت: يا أبا عبدالله: وهذا عندك صواب؟ -أي أمر الخروج على السلطان-. قال: لا، هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر، ثم قال أبو عبدالله: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (إن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن وليت أمره فاصبر) قال حنبل: فمضى أولئك القوم، فكان من أمرهم أنهم لم يحمدوا، ولم ينالوا ما أرادوا، اختفوا من السلطان، وهربوا، وأخذ بعضهم فحبس، ومات في الحبس) -8
ففي هذه الحكاية دلالة عظيمة على فقه هذا الإمام؛ لأنه يعلم أنه يترتب على الخروج عليهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم ما لم ير كفرٌ بواح.
كما أن فيها حفظ الله وعصمته لهذا الإمام، فإنه -رحمه الله- لم يأبه بكلام من جاءه يريد الخروج، ويحتج بالدين، والنصرة له؛ معرضاً عن عواقب هذا الأمر، فإن النفوس –غالباً- تضعف بمثل هذا الكلام، وتجيش عاطفتها، وتطيش عقولها، فتسارع في الموافقة، فتتصرف بشيءٍ لا يحمد، وكم من مريد للخير لم يبلغه.
ونحن في هذا الزمان بحاجة إلى إشاعة مثل هذه المواقف المشرقة المبنية على الكتاب والسنة، وتثقيف الشباب بها؛ فإن ما وقع فيه بعض الشباب في الآونة الأخيرة من أفكار منحرفة، وأفعال غير مرضية شرعاً، إنما هو بسبب الجهل بهذا الجانب
6- رفعة الإمام أحمد بنصر السنة؛ وذلك بكونه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: (صار مثلاً سائراً يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق، حتى صار اسم الإمام مقروناً باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام أحمد، هذا مذهب الإمام أحمد؛ لقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة:24 فإنه أعطي من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين)-9
وكذا رفعة الله للخليفة المتوكل ؛ لكونه نصر السنة، ودحض البدعة، فلا تخلو ترجمة له من ذكر نصره للسنة، قال قاضي البصرة إبراهيم بن محمد التيمي: (الخلفاء ثلاثة: أبو بكر يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم من بني أمية، والمتوكل في محو البدع، وإظهار السنة)-10
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (جعل الله عامة خلفاء بنى العباس من ذرية المتوكل دون ذرية الذين أقاموا المحنة لأهل السنة) -11
وفي هذه المحنة عدة فوائد، منها :
1- أن العالم إذا صدق مع الله أبان له الحق، وأظهر له الحجة، ونصره ومكنه، قال أبوزرعة: (قلت لأحمد بن حنبل: كيف تخلصت من سيف المعتصم وسوط الواثق؟ فقال: لو وضع الصدق على جرح لبرأ)-4.
2- أن أقوى حجة استدل بها الإمام أحمد هي الاحتجاج بالكتاب والسنة، وبها غلب خصومه في مناظراته معهم، ففي هذا إخضاع مدرسة العقل لمدرسة النص، وأن العقل وحده لا يستقل بمعرفة الأحكام والمصالح والمفاسد.
3- عظمة هذا الإمام، فمع ما جاءه من الشدة والعذاب إلا أنه عفا عن كل من فعل به ذلك ما عدا مبتدعاً، مما يدل على أنه لم يكن ينتصر لنفسه، ولم ينتقم لها، وإنما ينتقم للدين، وقد سبق بيان شيءٍ من ذلك عند ذكر حلمه وعفوه.
4- أنه مهما كان وزن العالم وثقله عند الناس؛ فإنه يحتاج إلى من يثبته، والإمام أحمد مع وفور علمه، ورباطة جأشه، وقوة قلبه، تحكى عنه مواقف في محنته تدل على هذا، ومنها:
قال عبدالله بن أحمد: (كنت كثيراً أسمع والدي يقول: رحم الله أبا الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم. فقلت: يا أبة، من أبوالهيثم؟ قال: ما تعرفه؟ قلت: لا. قال: أبوالهيثم الحداد؛ اليوم الذي خرجت فيه للسياط، ومدت يداي للعقابين، إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي، ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا. قال: أنا أبو الهيثم العيار، اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان؛ لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين) -5.
وقال الإمام أحمد: (ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد، إن يقتلك الحق، مت شهيداً، وإن عشت، عشت حميداً، فقوى قلبي) -6.
وقال عبد الله: (جاء رجل إلى أبي فذكر أنه كان عند بشر -يعني بن الحارث-، فذكروه فأثنى عليه بشر, وقال: لا ينسى الله لأحمد صنيعه, ثبت وثبَّتنا, ولولاه لهلكنا قال عبد الله: ووجه أبي يتهلل, فقلت: يا أبت أليس تكره المدح في الوجه؟ فقال: يا بني إنما ذكرت عند رجل من عباد الله الصالحين, وما كان مني فحمد صنيعي، وقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن مرآة أخيه")-7.
5- بُعْدُ نظرالإمام أحمد، وفقهه العظيم في الموازنة بين المصالح والمفاسد، فمع هذه المقولة البدعية التي تواطأ عليها الخلفاء الثلاثة، ودعوا الناس إليها، وساموهم سوء العذاب؛ إلا أنه مع ذلك لم يكن يرى الخروج عليهم، بل كان يحذر من ذلك، ويرى السمع والطاعة لهم، وهذه حكاية تبين هذا:
يقول حنبل بن إسحاق؛ ابن عم الإمام أحمد: (لما أظهر الواثق هذه المقالة، وضرب عليها وحبس، جاء نفر إلى أبي عبدالله، من فقهاء أهل بغداد، فقالوا له: يا أبا عبدالله: إن الأمر فشا وتفاقم، وهذا الرجل يفعل ويفعل، وقد أظهر ما أظهر، ونحن نخافه على أكثر من هذا، وذكروا له أن ابن أبي دؤاد مضى على أن يأمر بالمعلمين بتعليم الصبيان في الكتاب مع القرآن: القرآن كذا وكذا. فقال لهم أبو عبدالله: وماذا تريدون؟ قالوا: أتيناك نشاورك فيما نريد. قال: فما تريدون؟ قالوا: لا نرضى بإمرته ولا بسلطانه. فناظرهم أبو عبدالله ساعة؛ حتى قال لهم: أرأيتم إن لم يتم لكم هذا الأمر، أليس قد صرتم من ذلك إلى المكروه، عليكم بالنكرة في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، ولا تعجلوا، واصبروا حتى يستريح برٌ، ويستراح من فاجر. فقال بعضهم: إنا نخاف على أولادنا، إذا ظهر هذا لم يعرفوا غيره، ويمحى الإسلام ويدرس. فقال أبو عبدالله: كلا؛ إن الله -عز وجل- ناصر دينه، وإن هذا الأمر له رب ينصره. فخرجوا من عند أبي عبدالله، ولم يجبهم إلى شيءٍ مما عزموا عليه أكثر من النهي عن ذلك، والاحتجاج عليهم بالسمع والطاعة، حتى يفرج الله عن هذه الأمة. فلم يقبلوا منه، وخرجوا من عنده، فلما خرجوا قلت: يا أبا عبدالله: وهذا عندك صواب؟ -أي أمر الخروج على السلطان-. قال: لا، هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر، ثم قال أبو عبدالله: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (إن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن وليت أمره فاصبر) قال حنبل: فمضى أولئك القوم، فكان من أمرهم أنهم لم يحمدوا، ولم ينالوا ما أرادوا، اختفوا من السلطان، وهربوا، وأخذ بعضهم فحبس، ومات في الحبس) -8
ففي هذه الحكاية دلالة عظيمة على فقه هذا الإمام؛ لأنه يعلم أنه يترتب على الخروج عليهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم ما لم ير كفرٌ بواح.
كما أن فيها حفظ الله وعصمته لهذا الإمام، فإنه -رحمه الله- لم يأبه بكلام من جاءه يريد الخروج، ويحتج بالدين، والنصرة له؛ معرضاً عن عواقب هذا الأمر، فإن النفوس –غالباً- تضعف بمثل هذا الكلام، وتجيش عاطفتها، وتطيش عقولها، فتسارع في الموافقة، فتتصرف بشيءٍ لا يحمد، وكم من مريد للخير لم يبلغه.
ونحن في هذا الزمان بحاجة إلى إشاعة مثل هذه المواقف المشرقة المبنية على الكتاب والسنة، وتثقيف الشباب بها؛ فإن ما وقع فيه بعض الشباب في الآونة الأخيرة من أفكار منحرفة، وأفعال غير مرضية شرعاً، إنما هو بسبب الجهل بهذا الجانب
6- رفعة الإمام أحمد بنصر السنة؛ وذلك بكونه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: (صار مثلاً سائراً يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق، حتى صار اسم الإمام مقروناً باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام أحمد، هذا مذهب الإمام أحمد؛ لقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة:24 فإنه أعطي من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين)-9
وكذا رفعة الله للخليفة المتوكل ؛ لكونه نصر السنة، ودحض البدعة، فلا تخلو ترجمة له من ذكر نصره للسنة، قال قاضي البصرة إبراهيم بن محمد التيمي: (الخلفاء ثلاثة: أبو بكر يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم من بني أمية، والمتوكل في محو البدع، وإظهار السنة)-10
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (جعل الله عامة خلفاء بنى العباس من ذرية المتوكل دون ذرية الذين أقاموا المحنة لأهل السنة) -11
No comments:
Post a Comment