لقد كان هذا الإمام سباقاً للخيرات، من يقلب الطرف في سيرته يلق عظمة تتصاغر عندها الهمم، وتملأ الصدور هيبة وإجلالاً؛ ولذا خرجت كلمات الثناء على هذا الإمام من أئمة عصره، ومن بعدهم، يشيدون بذكره، ويعددون مآثره، ويعلنون مفاخره، فقال عنه ابن مهدي وهو أحد شيوخه: (كاد هذا الغلام أن يكون إماماً في بطن أمه) -1
وقال إبراهيم الحربي: (كان أحمد بن حنبل كأنه رجل قد وفق للأدب, وسدد بالحلم, وملئ بالعلم)
وقال إبراهيم الحربي: (كان أحمد بن حنبل كأنه رجل قد وفق للأدب, وسدد بالحلم, وملئ بالعلم)
قال إبراهيم -أيضاً-: (لقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً وحراً وبرداً وليلاً ونهاراً، فما لقيته لقاةً في يوم إلا وهو زائدٌ عليه بالأمس) -3
وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: (ومن نظر في سيرة أبي عبد الله، وترجمة ما سبق، وما يأتي، وما لم نذكره وجد همته في الخيرات والطاعات من أعلى الهمم, وإنه يصدق عليه ما رواه الحاكم في تاريخه عن الأصمعي، أن دغفلاً دخل على معاوية، فقال له أي بيت أفخر, قال: قول الشاعر:
له همم لا منتهى ii لكبارها وهمته الصغرى أجل من ii الدهرله راحة لو أن معشار iiجودها على البر كان البر أندى من البحر)-4فلننظر -جميعاً- عن أبرز مآثر هذا الإمام، وأظهر شمائله؛ لنقتدي بها، فإن التشبه بمثله فلاح:
أولاً: سعة علمه، وغزارته، وإمامته فيه:
لقد اشتهر الإمام أحمد بالعلم، فإذا قيل في العلم: قال أحمد؛ هكذا مهملاً، فلا ينصرف الذهن إلا إليه، فقد بلغ فيه منزلة لا تجارى، ورتبة لا تسامى، فكأنما هو والعلم رضيعا لبان، وثناء العلماء عليه بالعلم شائعٌ ذائعٌ، فمنه قول إبراهيم الحربي: -رأيت أحمد بن حنبل، فرأيت كأن الله قد جمع له علم الأولين، فمن كل صنف يقول ما شاء، ويمسك ما شاء) 5
وقال عبدالوهاب بن عبدالحكم الوراق: (ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، قيل له: وأي شيءٍ بان لك من فضله، وعلمه على سائر من رأيت؟ قال: رجل سئل عن ستين ألف مسألة، فأجاب فيها بأن قال: حدثنا، وأخبرنا)-6
وقال أبوزرعة: (كان أحمد يحفظ ألف ألف، فقيل له وما يدريك؟ قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب).
قال الذهبي: (فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر، والاثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك، وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك)-7
وقد سبق ذكر ثناء الإمام الشافعي عليه، وأنه إمام في ثمان خصال، وذكر منها، أنه: إمام في الحديث، وإمام في الفقه، وإمام في اللغة، وإمام في القرآن، إمام في السنة.
فيا ترى ما هي الأسباب في سبق هذا الإمام العلمي؟
إن المتأمل في سيرته يجد أسباباً خمسة ساعدت على تميزه في العلم، وإليك بيانها مع ذكر ما يدل عليها من سيرته:
السبب الأول: توفيق الله لهذا الإمام وتأييده له، وهذا السبب الأكبر في نيل العظائم، وإدراك الغايات النبيلة، فقد قال الإمام أحمد -رحمه الله-: (إنما العلم مواهب يؤتيه الله من أحب من خلقه) -8، وقد نظم هذا المعنى العلامة ابن القيم، فقال:
والعلم يدخل قلب كل موفق من غير بواب ولا استئذانويرده المحروم من خذلانه لا تشقنا اللهم iiبالحرمان
وكلام هذين العالمين منطلق من قوله تعالى: (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ...) الآية. {البقرة:269}
قال مجاهد (أي القرآنَ والعلمَ والفقهَ)[9
وليس معنى هذا أن يترك المرء فعل الأسباب، منتظراً بين عشية أو ضحاها أن ينزل عليه توفيق الله، فيكونَ حبرَ الأمة، وعلامةَ الزمان!
لا، بل يتحتم عليه الطرقُ للباب، والأخذُ بالأسباب؛ فإن الله –سبحانه- قال: (...وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ...) الآية. {النور:21} وقال: (...وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ...) الآية. {فاطر:18} .
والإمام أحمد -رحمه الله- قد طرق الباب، وأخذ بالأسباب، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله-.
السبب الثاني: إخلاص هذا الإمام، وتجرده لله -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً-، والإخلاص يكثر العمل القليل، ويباركه وينميه، ومن قرأ سيرة هذا الإمام لاح له هذا الأمر، وهذه بعض النماذج من سيرته دالة على ذلك:
الأول: محبته خمول الذكر وعدم الشهرة، فقد قال لعمه مرة: (ياعم، طوبى لمن أخمل الله ذكره) [10]، ومرة أوصى أحد طلابه، فقال: (أخمل ذكرك، فإني قد بليت بالشهرة)[11] ، وكان -رحمه الله- إذا مشى في طريق يكره أن يتبعه أحد[12
الثاني: قال -رحمه الله-: (إظهار المحبرة من الرياء)[13
فعد هذا الإمام مجرد إظهار المحبرة من الرياء، ولعله يقصد أن إظهارها ونحوها من الأشياء التي هي شعار العلم، من البواعث على الرياء؛ والنفس لا تسلم من حظوظها إلا ما رحم ربي، ولعل المحبرة في زمانهم كانت شعاراً للعلم.
الثالث: قال المروذي: (كنت مع أبي عبدالله نحواً من أربعة أشهر بالعسكر، ولا يدع قيام الليل وقراءة النهار، فما علمت بختمة ختمها، وكان يسر ذلك)[14
الرابع: وقال أبو حاتم: (كان أحمد إذا رأيته، تعلم أنه لا يظهر النسك، رأيت عليه نعلاً لا يشبه نعال القراء، له رأس كبير معقَّد، وشراكه مُسْبَل، ورأيت عليه إزاراً وجبة برد مخططة؛ أي لم يكن بزي القراء)[15
فمن أراد بركة العلم ، فليلزم الإخلاص فثمَّ العلم.
ومسألة الإخلاص شديدة المطلب، وعرة المسلك، تحتاج إلى معالجة ومجاهدة، وقد قال سفيان الثوري -رحمه الله-: (ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي) لكن الثمرة ذكرها ربنا في كتابه فقال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) {العنكبوت:69}.
السبب الثالث: جده في طلب العلم وصبره على الأذى فيه، فالعلم ليس حلماً يرى في المنام، ولا صيداً يرمى بالسهام، ولا مالاً يورث عن الآباء والأعمام، إنما هو الجد والاهتمام، وهكذا فعل هذا الإمام، فقد طاف البلاد، وجاب الأمصار، في طلب العلم، فقد رحل إلى الكوفة، والبصرة، وعبادان، والجزيرة، وواسط، ومكة، والمدينة، ورحل ماشياً إلى صنعاء اليمن، ورحل ماشياً إلى طرسوس، ورحل إلى الشام، واستفرغ في العلم وسعه، وسلك إليه كل سبيل، وركب فيه كل صعب وذلول حتى نال ما نال.
قال البغوي عن أحمد: (أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر)، وقال صالح ابنه: (رأى رجل مع أبي محبرة، فقال له: يا أبا عبد الله أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين؟! فقال: معي المحبرة إلى المقبرة)[16
وإذا كانت النفوس iiكباراً تعبت في مرادها الأجسام
السبب الرابع: عمله بعلمه، فالإمام أحمد إنما يطلب العلم؛ لكي يعمل به؛ لا يطلبه لأجل مكاثرة، أو مفاخرة، أو لأجل دنيا يصيبها، ومن أسباب ثبات العلم العمل به، وقد قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل)[17] وهذه نماذج تدل على عمل الإمام أحمد بكل ما يتعلمه، وتحريه لذلك أشد التحري:
* قال المروذي: (قال لي أبو عبد الله: ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به، حتى مر بي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً، فاحتجمت وأعطيت الحجام ديناراً)[18
* وقال أبو الحسن بن المنادي: (استأذن أحمد زوجته في أن يتسرى؛ طلباً للاتباع، فأذنت له، فاشترى جارية بثمن يسير، وسماها ريحانة؛ استناناً برسول الله –صلى الله عليه وسلم-)[19
* وقال حنبل: (كانت كتب أبي عبد الله أحمد بن حنبل التي يكتب بها: من فلان إلى فلان, فسألته عن ذلك فقال: رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وقيصر، وكتب كل ما كتب على ذلك, وأصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- ... وهذا الذي يكتب اليوم لفلان محدث لا أعرفه)[20
بل كان الإمام أحمد -رحمه الله- لا يغفل العمل بالسنة حتى في مواطن الشدة، فقد قال إبراهيم بن هانىء: (اختبأ عندي أحمد بن حنبل ثلاث ليال -وذلك زمن الواثق لما فرض عليه الإقامة الجبرية- ثم قال لي: اطلب لي موضعا حتى أدور إليه, قال: إني لا آمن عليك يا أبا عبد الله, فقال: النبي –صلى الله عليه وسلم- اختفى في الغار ثلاثة أيام, وليس ينبغي أن نتبع سنته –صلى الله عليه وسلم- في الرخاء ونتركها في الشدة)[21
بل وهو في الاحتضار عند معاينة الموت، كان حريصاً على تطبيق السنن، فقد سئل ابنه عبدالله: هل عقل أبوك عند المعاينة -أي معاينة الموت-؟ قال: نعم.
كنا نوضئه، فجعل يشير بيده، فقال لي صالح: أي شيء يقول؟ فقلت: هو ذا يقول: خللوا أصابعي، فخللنا أصابعه، ثم ترك الإشارة، فمات من ساعته[22
سبحان الله، ما أعظم هذا الإمام! نفسه تحشرج، وبات يجود بها، وقد أشفى على الموت، ومع ذلك لم يخل بتطبيق هذه السنة، فماذا يقال لبعضنا، تمر عليه السنة تلو السنة، يطبقها حيناً، ويتركها أحايين، بل بعضهم إذا نوقش في ترك بعض المسنونات قال: الأمر لا يصل إلى حد الوجوب، وإذا نوقش في فعل بعض المنهيات قال: النهي لا يصل إلى حد التحريم.
نعم قد يكون كلامه صحيحاً، لكن الكمَّل من الخلق، يبادرون إلى فعل الأمر وإن كان للاستحباب، ويبادرون بترك المحرم وإن كان للتنزيه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
السبب الخامس: صلاحه، وصدق تقواه، والتقوى سبيل العلم النافع، والعمل الصالح، ومصداق ذلك في كتاب الله في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ) {الأنفال:29}
قال ابن جريج وابن زيد: (هداية ونوراً في قلوبكم، تفرقون به بين الحق والباطل)[23
وقال المرُُّوْذي: (سمعت فتح بن أبي الفتح يقول لأبي عبدالله -يعني الإمام أحمد- في مرضه الذي مات فيه: ادع الله أن يحسن الخلافة علينا بعدك؟ وقال له: من نسأل بعدك؟
فقال: سل عبدالوهاب بن عبد الحكم.
وأخبرني من كان حاضراً، أنه قال له: إنه ليس له اتساع في العلم؟!
فقال أبو عبدالله: إنه رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحق)[24].
فهذه كلمة عظيمة خرجت من رجل فحص العلم، فعجم عوده، وسبر غوره، لتُبِيْن بجلاء أن الصلاح سبيلٌ للتوفيق في العلم، وإصابة الحق فيه.
وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: (ومن نظر في سيرة أبي عبد الله، وترجمة ما سبق، وما يأتي، وما لم نذكره وجد همته في الخيرات والطاعات من أعلى الهمم, وإنه يصدق عليه ما رواه الحاكم في تاريخه عن الأصمعي، أن دغفلاً دخل على معاوية، فقال له أي بيت أفخر, قال: قول الشاعر:
له همم لا منتهى ii لكبارها وهمته الصغرى أجل من ii الدهرله راحة لو أن معشار iiجودها على البر كان البر أندى من البحر)-4فلننظر -جميعاً- عن أبرز مآثر هذا الإمام، وأظهر شمائله؛ لنقتدي بها، فإن التشبه بمثله فلاح:
أولاً: سعة علمه، وغزارته، وإمامته فيه:
لقد اشتهر الإمام أحمد بالعلم، فإذا قيل في العلم: قال أحمد؛ هكذا مهملاً، فلا ينصرف الذهن إلا إليه، فقد بلغ فيه منزلة لا تجارى، ورتبة لا تسامى، فكأنما هو والعلم رضيعا لبان، وثناء العلماء عليه بالعلم شائعٌ ذائعٌ، فمنه قول إبراهيم الحربي: -رأيت أحمد بن حنبل، فرأيت كأن الله قد جمع له علم الأولين، فمن كل صنف يقول ما شاء، ويمسك ما شاء) 5
وقال عبدالوهاب بن عبدالحكم الوراق: (ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، قيل له: وأي شيءٍ بان لك من فضله، وعلمه على سائر من رأيت؟ قال: رجل سئل عن ستين ألف مسألة، فأجاب فيها بأن قال: حدثنا، وأخبرنا)-6
وقال أبوزرعة: (كان أحمد يحفظ ألف ألف، فقيل له وما يدريك؟ قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب).
قال الذهبي: (فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر، والاثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك، وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك)-7
وقد سبق ذكر ثناء الإمام الشافعي عليه، وأنه إمام في ثمان خصال، وذكر منها، أنه: إمام في الحديث، وإمام في الفقه، وإمام في اللغة، وإمام في القرآن، إمام في السنة.
فيا ترى ما هي الأسباب في سبق هذا الإمام العلمي؟
إن المتأمل في سيرته يجد أسباباً خمسة ساعدت على تميزه في العلم، وإليك بيانها مع ذكر ما يدل عليها من سيرته:
السبب الأول: توفيق الله لهذا الإمام وتأييده له، وهذا السبب الأكبر في نيل العظائم، وإدراك الغايات النبيلة، فقد قال الإمام أحمد -رحمه الله-: (إنما العلم مواهب يؤتيه الله من أحب من خلقه) -8، وقد نظم هذا المعنى العلامة ابن القيم، فقال:
والعلم يدخل قلب كل موفق من غير بواب ولا استئذانويرده المحروم من خذلانه لا تشقنا اللهم iiبالحرمان
وكلام هذين العالمين منطلق من قوله تعالى: (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ...) الآية. {البقرة:269}
قال مجاهد (أي القرآنَ والعلمَ والفقهَ)[9
وليس معنى هذا أن يترك المرء فعل الأسباب، منتظراً بين عشية أو ضحاها أن ينزل عليه توفيق الله، فيكونَ حبرَ الأمة، وعلامةَ الزمان!
لا، بل يتحتم عليه الطرقُ للباب، والأخذُ بالأسباب؛ فإن الله –سبحانه- قال: (...وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ...) الآية. {النور:21} وقال: (...وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ...) الآية. {فاطر:18} .
والإمام أحمد -رحمه الله- قد طرق الباب، وأخذ بالأسباب، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله-.
السبب الثاني: إخلاص هذا الإمام، وتجرده لله -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً-، والإخلاص يكثر العمل القليل، ويباركه وينميه، ومن قرأ سيرة هذا الإمام لاح له هذا الأمر، وهذه بعض النماذج من سيرته دالة على ذلك:
الأول: محبته خمول الذكر وعدم الشهرة، فقد قال لعمه مرة: (ياعم، طوبى لمن أخمل الله ذكره) [10]، ومرة أوصى أحد طلابه، فقال: (أخمل ذكرك، فإني قد بليت بالشهرة)[11] ، وكان -رحمه الله- إذا مشى في طريق يكره أن يتبعه أحد[12
الثاني: قال -رحمه الله-: (إظهار المحبرة من الرياء)[13
فعد هذا الإمام مجرد إظهار المحبرة من الرياء، ولعله يقصد أن إظهارها ونحوها من الأشياء التي هي شعار العلم، من البواعث على الرياء؛ والنفس لا تسلم من حظوظها إلا ما رحم ربي، ولعل المحبرة في زمانهم كانت شعاراً للعلم.
الثالث: قال المروذي: (كنت مع أبي عبدالله نحواً من أربعة أشهر بالعسكر، ولا يدع قيام الليل وقراءة النهار، فما علمت بختمة ختمها، وكان يسر ذلك)[14
الرابع: وقال أبو حاتم: (كان أحمد إذا رأيته، تعلم أنه لا يظهر النسك، رأيت عليه نعلاً لا يشبه نعال القراء، له رأس كبير معقَّد، وشراكه مُسْبَل، ورأيت عليه إزاراً وجبة برد مخططة؛ أي لم يكن بزي القراء)[15
فمن أراد بركة العلم ، فليلزم الإخلاص فثمَّ العلم.
ومسألة الإخلاص شديدة المطلب، وعرة المسلك، تحتاج إلى معالجة ومجاهدة، وقد قال سفيان الثوري -رحمه الله-: (ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي) لكن الثمرة ذكرها ربنا في كتابه فقال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) {العنكبوت:69}.
السبب الثالث: جده في طلب العلم وصبره على الأذى فيه، فالعلم ليس حلماً يرى في المنام، ولا صيداً يرمى بالسهام، ولا مالاً يورث عن الآباء والأعمام، إنما هو الجد والاهتمام، وهكذا فعل هذا الإمام، فقد طاف البلاد، وجاب الأمصار، في طلب العلم، فقد رحل إلى الكوفة، والبصرة، وعبادان، والجزيرة، وواسط، ومكة، والمدينة، ورحل ماشياً إلى صنعاء اليمن، ورحل ماشياً إلى طرسوس، ورحل إلى الشام، واستفرغ في العلم وسعه، وسلك إليه كل سبيل، وركب فيه كل صعب وذلول حتى نال ما نال.
قال البغوي عن أحمد: (أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر)، وقال صالح ابنه: (رأى رجل مع أبي محبرة، فقال له: يا أبا عبد الله أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين؟! فقال: معي المحبرة إلى المقبرة)[16
وإذا كانت النفوس iiكباراً تعبت في مرادها الأجسام
السبب الرابع: عمله بعلمه، فالإمام أحمد إنما يطلب العلم؛ لكي يعمل به؛ لا يطلبه لأجل مكاثرة، أو مفاخرة، أو لأجل دنيا يصيبها، ومن أسباب ثبات العلم العمل به، وقد قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل)[17] وهذه نماذج تدل على عمل الإمام أحمد بكل ما يتعلمه، وتحريه لذلك أشد التحري:
* قال المروذي: (قال لي أبو عبد الله: ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به، حتى مر بي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً، فاحتجمت وأعطيت الحجام ديناراً)[18
* وقال أبو الحسن بن المنادي: (استأذن أحمد زوجته في أن يتسرى؛ طلباً للاتباع، فأذنت له، فاشترى جارية بثمن يسير، وسماها ريحانة؛ استناناً برسول الله –صلى الله عليه وسلم-)[19
* وقال حنبل: (كانت كتب أبي عبد الله أحمد بن حنبل التي يكتب بها: من فلان إلى فلان, فسألته عن ذلك فقال: رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وقيصر، وكتب كل ما كتب على ذلك, وأصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- ... وهذا الذي يكتب اليوم لفلان محدث لا أعرفه)[20
بل كان الإمام أحمد -رحمه الله- لا يغفل العمل بالسنة حتى في مواطن الشدة، فقد قال إبراهيم بن هانىء: (اختبأ عندي أحمد بن حنبل ثلاث ليال -وذلك زمن الواثق لما فرض عليه الإقامة الجبرية- ثم قال لي: اطلب لي موضعا حتى أدور إليه, قال: إني لا آمن عليك يا أبا عبد الله, فقال: النبي –صلى الله عليه وسلم- اختفى في الغار ثلاثة أيام, وليس ينبغي أن نتبع سنته –صلى الله عليه وسلم- في الرخاء ونتركها في الشدة)[21
بل وهو في الاحتضار عند معاينة الموت، كان حريصاً على تطبيق السنن، فقد سئل ابنه عبدالله: هل عقل أبوك عند المعاينة -أي معاينة الموت-؟ قال: نعم.
كنا نوضئه، فجعل يشير بيده، فقال لي صالح: أي شيء يقول؟ فقلت: هو ذا يقول: خللوا أصابعي، فخللنا أصابعه، ثم ترك الإشارة، فمات من ساعته[22
سبحان الله، ما أعظم هذا الإمام! نفسه تحشرج، وبات يجود بها، وقد أشفى على الموت، ومع ذلك لم يخل بتطبيق هذه السنة، فماذا يقال لبعضنا، تمر عليه السنة تلو السنة، يطبقها حيناً، ويتركها أحايين، بل بعضهم إذا نوقش في ترك بعض المسنونات قال: الأمر لا يصل إلى حد الوجوب، وإذا نوقش في فعل بعض المنهيات قال: النهي لا يصل إلى حد التحريم.
نعم قد يكون كلامه صحيحاً، لكن الكمَّل من الخلق، يبادرون إلى فعل الأمر وإن كان للاستحباب، ويبادرون بترك المحرم وإن كان للتنزيه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
السبب الخامس: صلاحه، وصدق تقواه، والتقوى سبيل العلم النافع، والعمل الصالح، ومصداق ذلك في كتاب الله في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ) {الأنفال:29}
قال ابن جريج وابن زيد: (هداية ونوراً في قلوبكم، تفرقون به بين الحق والباطل)[23
وقال المرُُّوْذي: (سمعت فتح بن أبي الفتح يقول لأبي عبدالله -يعني الإمام أحمد- في مرضه الذي مات فيه: ادع الله أن يحسن الخلافة علينا بعدك؟ وقال له: من نسأل بعدك؟
فقال: سل عبدالوهاب بن عبد الحكم.
وأخبرني من كان حاضراً، أنه قال له: إنه ليس له اتساع في العلم؟!
فقال أبو عبدالله: إنه رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحق)[24].
فهذه كلمة عظيمة خرجت من رجل فحص العلم، فعجم عوده، وسبر غوره، لتُبِيْن بجلاء أن الصلاح سبيلٌ للتوفيق في العلم، وإصابة الحق فيه.
No comments:
Post a Comment